“أريد رائحة القهوة، لا أريد غير رائحة القهوة، ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة، رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدميّ، لأتحول من زاحفٍ إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميه، لنمضي معًا، أنا وهذا النهار، إلى الشارع بحثًا عن مكانٍ آخر.”
– محمود درويش
لكلّ حكايةٍ بداية تنشأُ منها، تتميّز بها دون غيرها، وتتصاعد منها أحداثُها…
في القرن السادس عشر ابتدأت حكايةً فريدة في إيطاليا، حين أحضر عالم نباتٍ مشهور، مشروبًا غامضًا إلى مدينة البندقية، كان قد اكتشفه من خلال أسفاره، وصار هذا المشروب؛ الذي يسحرُ متذوّقيه بعبقهِ الرائع من أول رشفة، يُصرف كدواءٍ في الصيدليّات بوصفاتٍ طبّية خاصة لمن يملك ثمنه.
سرعان ما ذاع صيت المشروب العذب بين طبقة الأثرياء في البندقية، حيث كان بعيدًا عن مُتناول العامة آنذاك -لندرته وارتفاع قيمته-.
وشيئًا فشيئًا بدأت تظهر مزارع (البُن) في أنحاء أوروبا، فانخفض سعر الدواء -طيّب المذاق- الذي يُعرف الآن بالقهوة، ومنذ ذلك الحين أصبح في مُتناول جميع أهالي البندقية، ولم يعد علاجًا طبيًا محصورًا على الأغنياء.
ثقافة استثنائية
ازدادت شعبية القهوة في إيطاليا وأصبحت ظاهرة في أنحاء المدن المُجاورة للبندقية، حتى وصلت إلى روما ونابولي وصقليّة، وأكملت القهوة مسيرة انتشارها وتوسّعها وتطوّرها حتى أصبحت جزءًا أساسيًا من الحياة الإيطالية، وثقافة لا مثيل لها في كل أنحاء العالم.
في الصباح الباكر يفوحُ عبق القهوة في الشوارع الإيطالية وتعجّ المقاهي بمرتاديها، وتظهر في تلك الأثناء ثقافاتٌ وعادات تعادلُ أكثر العادات تعقيدًا، فبين ضآلة الطلبات الخارجية والأكواب الورقية إلى بروتوكول الطلب ذاته وقاعدة عدم شرب القهوة مع الحليب بعد الحادية عشر صباحًا، وبين هذه العادة وتلك تظهرُ أكثر العادات نُبلًا والتي اشتهرت بها مدينة نابولي الإيطاليّة.
لأن القهوة حق للجميع
يُحكى أنّ مدينة نابولي مرّت بأيامٍ عصيبة، ارتفع فيها سعر القهوة، وعادت مشروبًا للطبقة الراقية فقط، كان الآباء الفقراء يكافئون أبناءهم بالمرور على المقاهي ليستنشقوا رائحة القهوة الزكية، ويراقبوا كيف يشربها الأثرياء!
ولأجل ألّا يُعيد التاريخ نفسه، وحتّى لا تكون القهوة مشروبًا مقتصرًا على من يملك المال فقط، كانت العادة النابولية (قهوة على الحائط “Caffè sospeso”)، وهي أن تدفع ثمن القهوة لمن يعجز عن شرائها، وأن تترك أثرًا لغريبٍ لن تلقاه، يمرّ لاحقًا على المقهى ليطلب كوب (قهوة على الحائط) أهديته إياه.
لا ينبغي لأحدٍ ما أن يُحرم من متعة هذه التجربة -أعني الاستمتاع بكوب قهوة دافئ-، فأيّ شيء قد يبهج الإنسان أكثر من أن يبدأ يومه بكوب قهوته المفضّلة يفتتح بها نهاره وينتج بعدها أفكاره الخلّاقة؟ وأيّ سعادة تغمره حين يكون هذا الكوب مُهدى له خصّيصًا؟ وأيّ مشاعر إنسانيّة صادقة تحملها تلك اللفتة النبيلة؟
جرّبوا اليوم أن تهدوا عابرًا، صديقًا، أو زميل عمل، لتنشروا من خلال القهوة محبةً وسلامًا.